الرئيسة    الفتاوى   الجهاد ومعاملة الكفار   الشماتة بالكفار غير المحاربين لما يقع لهم من آفات سماوية؟

الشماتة بالكفار غير المحاربين لما يقع لهم من آفات سماوية؟

فتوى رقم : 17178

مصنف ضمن : الجهاد ومعاملة الكفار

لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد

بتاريخ : 15/12/1433 00:00:00

س : هل تجوز الشماتة بما يقع للكفار المسالمين من كوارث طبيعية؟

الحمد لله أما بعد ..
إن مما لا ينبغي الخلاف فيه في هذا الباب مسائل مشروعة منها:
1.الفرح بالانتصار عليهم في حرب المسلمين معهم.
2.الفرح بهلاك من لا يُكف عدوانه إلا بهلاكه من أفرادهم.
3.الدعاء لهم بالهداية، والرجعة إلى الله.
4.الإحسان إلى من لم يحاربنا منهم ، ولم يظاهر علينا أحدا من أعدائنا ؛ لا سيما من الأقارب والجيران.
5.الفرح بما ينتج عن الكوارث الطبيعية من إضرار باقتصاد الدولة الكافرة المعادية، وليس بما يضر بسائر الناس.
وقد دل على مشروعية ذلك نصوصٌ كثيرة من الكتاب والسنة.
ولكن وقع الخلاف في الأزمنة المتأخرة في تمني الشر لمن لم يحارب منهم ، وفي الشماتة بما يقع على هؤلاء من مصائب ونكبات دون تفصيل.
وسبب الخلاف في هذه المسألة أن كل طائفة ممن أخذ أقصى طرفيها لم يفرز مسائلها ؛ ليعطي كل مسألة الحكم الذي دل عليه الكتاب والسنة ، فتراه قد جمع حقا وباطلا ؛ كما جمع مقابِلُه أيضا حقا وباطلا ، وألغى كل منهما ما عند الطرف الآخر من بعض الحق ، ثم تراهما قد استدلا أو تركا بعض النصوص من الكتاب والسنة دون أن يتأملا موضعها وسبب موافقتها أو مخالفتها.
ومن أظهر أسباب الخلاف = هو الإغراق في البحث عن الأحكام الحدية التي كان السلف يتحاشونها اكتفاء بالأخذ بمواضع الاتفاق والبعد عن التعمق المذموم ، واعتبار المصالح الظاهرة في الإقدام على الأمر أو في الإحجام عنه بما لا يعارض نصا أو أمرا مجمعا عليه ؛ مما سيتضح مثاله في هذه المسألة.
ولو قلنا بجواز الدعاء على المسالمين من الكفار ، أو الشماتة بهم فإن التحديد والبسط يحتاج إلى تفصيل ليس هذا موضعه .
لكن لا يصلح أن تكون تلك الأحكام الجوازية لو ثبتت في هذه المسائل = أصلا لا يجوز تركه ، وكأنما جعلته الشريعة واجبا محتما ؛ بل يرى البعض أن عقيدة الولاء والبراء لا تصح إلا بذلك ، ويغفلون عما في الشريعة من أصول السياسة الشرعية، ومن الرصيد الأخلاقي الذي يتسامى في عنان السماء ؛ مما دلت الشريعة فيه دلالة صريحة على جواز تعامل المسلم مع الكافر بهذا الرصيد العظيم حتى في وسط المعركة مع المعادين؛ فضلا عن زمن الأمن ، وفي حال الكوارث الطبيعية التي أكثر ما تطال عامة غير المسلمين.
فالشريعة حين أباحت بعض صور الدعاء على الأعداء والشماتة بهم قد جعلته رخصة في حال معينة ؛ كوقت المنازلة وكون ذلك مع المحاربين ؛ لإظهار قوة ، أو لتحطيم معنويات ، وفي بعض الأحوال المتكافئة حين يكون ذلك مؤثرا وفاصلا ، أو هي رخصة لمن ضعفت نفسه من عامة الناس فمال إلى هذا النوع من المنازلة مع العدل.
لكن هذه الأحوال في الغالب الأعظم عند كبار النفوس وقادة الأمة وفقهاء الشريعة ، والدعاة قد يرونها من المحرمات الأخلاقية ، وإن لم تكن عندهم من المحرمات الشرعية "الحدية" التي طالما تكلف بحثها كثيرون ، واحتجوا بها ؛ ففرطوا بسبب ذلك في خير عظيم ، وربما أضروا بالدعوة لغير المسلمين.
وعلينا في هذا المقام أن نصعد في معراج الأخلاق إلى ذرى الأخلاق الشاهقة لنرى كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما هي آثاره العظيمة في الواقع إيجابا وسلبا:
روى مسلم في "الصحيح" (4/2006) من حديث أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ! ادع على المشركين . قال "إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة".
وكان ذلك في وقت المنازلة المتكافئة ، وقبل هيمنة المسلمين وظهورهم على مكة.
فتأمل استحضار النبي القائد الداعية مبدأ الرحمة في حال الكفار وهم محاربون ؛ فكيف بالمسالمين في كوراث طبيعية؟
وقد روى البيهقي في "الشعب" (3/45) مرسلا عن عبد الله بن عبيد قال: لما كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ في جبهته فجعلت الدماء تسيل على وجهه قيل: يا رسول الله، ادع الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يبعثني طعانا ولا لعانا، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". فقد قال ذلك وهو في وسط المعركة وجرحه يسيل دما من عدوانهم
قال القاضي عياض في "الشفا" (1/106) في تعليقه على هذا الحديث: ( .. انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال فإنهم لا يعلمون) أهـ .
والأخلاق سبب من أسباب بعثة الرسل ؛ كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» رواه البخاري في "الأدب المفرد" (ص 104 ح 273) .
وكان في القرآن المكي : "وإنك لعلى خلق عظيم".
والرحمةُ في الذروة من أخلاق الكرام ، ولهذا كانت في الشريعة نظرا وعملا:
ففي حال الكفار المسالمين قال تعالى : "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين" وأكثر بواعث محبة البر رحمة القلب وعطفه .
وحزن النبي صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب حين مات ، ولم يكن هذا لأجل نصرته له ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم ثقة وتوكلا من أن يحزنه ذلك ، ولكنها المحبة الفطرية لأجل القرابة مع عدم تعارض ذلك لكرهه له بسبب كفرة ، ولهذا جمع بين الحزن الذي بعثته الشفقة والرحمة ، وبين ترك شهود جنازته ؛ وذلك لانقطاع حقوقه كإنسان قريب بموته ، وبقاء صفة الكفر التي تمنع صلته.
وأهدى عمر إلى أخيه المشرك.
وأما تحاشي النبي صلى الله عليه وسلم هلكة قومه الكفار فقد ثبت فيها حديث عائشة رضي الله عنها، قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، فذكر ما لقيه ثم قال: "فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا" . رواه البخاري في "الصحيح" (4/115).
وقد كانت الرحمة سمة دعوته صلى الله عليه وسلم ؛ حتى نُسب إليها في بعض أسمائه أو صفاته فقد روى الترمذي في "الشمائل" (1/191) عن حذيفة قال: قال : "..وأنا نبي الرحمة..".
وقد نهى عن قتل الصبيان والنساء والشيوخ والرهبان وهم من أهل ديار الحرب ، والرهبان أشدهم حملا للكراهية ، ولو كان المعنى هو مجرد الكفر لأذن بقتلهم ؛ فهم غير داخلين في عهد ولا أمان ولا ذمة.
وفي "السنن" لأبي داود (3/53) قال عن امرأة قتيل كافرة: «ما كانت هذه لتقاتل» .
وفي "المدونة" لمالك (1/499) : ( .. لا يُقتل الراهب.. وأرى أن يترك لهم من أموالهم ما يعيشون به..فلا يجدون ما يعيشون به فيموتون) أهـ . وهذا كله في حال الحرب لا في حال العهد والأمان والذمة والموادعة ؛ فإن أموالهم تحرم على المسلم في هذه الأحوال إلا الجزية.
ولم يبعث مالكٌ رحمه الله على ذلك إلا خلق الرحمة.
وإذا كان المسلم مدعوا إلى انتهاج خلق الرحمة الذي هو خلق إيجابي يتسم بالمبادرة تجاه المسلمين ، وأكثرِ غير المسلمين، وبعضِ المحاربين فبالأولى أن يكون المسلم أبعد عن الخلق السلبي المقيت = "الشماتة" بأمثال هؤلاء.
إن الشماتة سهم مسموم من أصابه عصر قلبه ، وفتت نفسه في زمن مصيبته ، وهو مناف لخلق الرحمة ومضاد لها من كل وجه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بأن لا يُشمت به الأعداء.
ومن رحمة المسلم بغير المسلمين أن لا يجعل من أخلاقه سببا لتنفير أولئك المحايدين عن الإسلام وكرهه وبغض أهله؛ فلله كم تحمل هؤلاء من المآثم والمغارم بهذه الأخلاق التي لم يأمر بها دين ولم ترضها فطرة؟
وهذه الأخلاق جزء من نهج المسلم ودينه، وهي مع ذلك سبب لقبول الناس له، ولو تأملت ما مضى من هذه النصوص لوجدت أن خلق الرحمة مرتبط ارتباطا وثيقا بمقاصد الدعوة ونهج الداعية:
ففي قوله تعالى : "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر وقد أبدت أن أمها راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أي في الإسلام.
وفي حديث عائشة : "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا". وهذا ربط لترك قتلهم بهدايتهم وانتفاعهم بالدعوة الإسلامية.
وفي نصوص أخرى وُجد ربط النبوة والبعثة بالرحمة ، ومن المعلوم أن البعثة والنبوة وجدا للدعوة إلى التوحيد ؛ ففي حديث أبي هريرة : "إنما بعثت رحمة" ، وفي حديثه الآخر : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» ، وفي حديث حذيفة "..وأنا نبي الرحمة.." .
وكما أن المقررات في محيط الأخلاق واضحة في نهج الشريعة ودرب النبوة = فهي مسلمات في جميع الملل ، ولدى جميع الشعوب حتى صارت الشماتة بالمسالمين سببا للخجل عندهم ، ومن أظهر علامات الوحشية والتخلف، وهي كذلك؛ فهل يرضى مسلم أن يخرج عن نهج أخلاق شريعته ، وأن يطرد الناس عن حياض دعوته؟
وما كانت رعاية مصلحة الشريعة الكبرى بدْعا في هديه صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ترك قتل المنافقين وقال: "حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه" ، وعلل للعب في المسجد ـــ رغم أنها لم تبن لهذا ــــ بقوله في حديث عائشة الثابت: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة" رواه أحمد في "المسند" (ح 25960).
فلو أن خُلُق الشماتة بالمسالمين كان ظاهرة عند السوقة من المسلمين لكان تأثيره السيء عظيما فكيف وقد سلك طريقه طالب علم أو داعية؟
وأما قوله تعالى : "ويشف صدور قوم مؤمنين" فهذا لا يعارض ما ذُكر فشفاء الصدر لا يعني ضرورةً إظهار الشماتة فيما ذكرنا من أحوال ؛ فإن المراد بالنص يتحقق في صور لا تحصى ؛ فلا تكون الشماتة سبيلا وحيدا لتفسير النص به ؛ كما أن المشرع الصحيح = فهم النص بهدي الصحابة فكيف إذا وجد هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟
وكذلك فإن ما يكون من تأثر اقتصاد الدولة إذْ كانت محاربة بمثل هذه الكوارث يحصل به شفاء الصدر ولو لم تظهر الشماتة بآحاد الناس؛ فقد رأيت بعضهم يشمت بغرق البيوت وتبعثر الأثاث.
وكل من وقفت على كلامه في هذه المسألة يستدل بالفرح بهزيمة الأعداء في المعركة بين الفريقين ، والفرح بالانتصار في معارك المصير مما جاز في الإسلام وفي جميع الملل وفرق بين ذلك والشماتة بهؤلاء.
وقد وجَّه الحافظ ابن حجر طريقة البخاري في ذكره حديث الدعاء على مضر بسني كسني يوسف مع ذكره حديث : "أسلم سالمها الله" وهي كافرة في باب واحد بقوله في "الفتح" (2/493): ( .. الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يخص بمن كان محاربا دون من كان مسالما)أهـ.
وأما دعاء خبيب رضي الله عنه ( اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا) فقد كان على قتله صبرا ، وكان موجها إلى من فعل ذلك به من قادة أهل مكة وقت كفرها، وما فعلوه به من أعظم العدوان. الله أعلم.