الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الأندلس
4/2/1437 - د. عبدالكريم بنانيالمقدمة:
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه... اما بعد.
لم تحظ شبه الجزيرة الأيبيرية بالاهتمام والعناية في المرحلة الرومانية رغم الزخم الذي انطوت عليه الا قليلاً، في حين انصبت عليها الدراسات بوصفها الفردوس المفقود للمسلمين في شتى الجوانب ، وعلى مختلف الجبهات : العلمية والفنية والثقافية على عهد الدولة الإسلامية بمنعطفاتها جميعا ؛ وما زالت تستأثر باهتمام الدارسين ، حيث طفقت الدراسات تترى في الأصول والفقه والصرف والنحو واللغة وما إليها من علوم وفنون شتى، لا تطمح إلا إلى خدمة الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة، وما يتبع ذلك من علوم الآلة التي تصب جميعا في هذا البحر الواسع الذي لا تكدره الدلاء بما هو مستأهل للمزيد من العطاء والإبداع والتفكر والتفكير من لدن أهل الذكر والاختصاص.
وفي هذا المقام أدلى صاحب هذه الدراسة دلوه مع الباحثين، ليحوم حول حمى موضوع يحسب أنه لا يقل قيمة عن أمثاله وهو الموسوم بـ " الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس ... الأسس، المنطلقات والابعاد " ، إذ من شأن هذه الدراسة أن ترفد الفكر الفقهي والأصولي بالمزيد من المعطيات الهامة في هذا الخضم الذي ما زال في حاجة ملحة إلى تسليط الأضواء عليه، من أجل إبراز تراث علماء المالكية بالأندلس وتوضيح أسبقيتهم في هذا المجال.
وللحقيقة فإننا " اذا استثنينا بعض أفراد لمذهب الظاهري ، نجد علماء الأمة الإسلامية مجمعين على أن الشريعة إنما هي حكمة ورحمة ومصلحة للعباد في دنياهم وآخرتهم ، وأن أحكامها كلها على هذا المنوال، ما علمنا من ذلك وما لم نعلم.
قال الله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فقد جزم العلامة ابن القيم رحمه الله (ت756ه) بأن " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد . وهي عدل كلها ورحمة كلها ، ومصالح كلها .
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل .
وهذا الاجماع الصادر عن سائر العلماء المعتبرين ، قديم يرجع إلى الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما حققه وصرح به عدد من العلماء المحققين المدققين في فقه الصحابة والسلف .
قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي (ت1176ه) " وقد يظن ان الاحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح وأنه ليس بين الاعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبة وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل سيد أراد ان يختبر طبائع عبده فأمره برفع حجر أو لمس شجرة ، مما لا فائدة فيه غير الاختبار ، فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله. وهذا ظن فاسد تكذبه السنة والاجماع القرون المشهود لها بالخير" .
ولما كان شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي قد ابدى تخوفه - في زمن الركود والجمود – من أن فكره المقاصدي التجديدي قد يواجه بالاستغراب والانكار ، فإنه وجد ملاذه وحجته في كون ما جاء به " بحمد الله أ مر قررته الآيات والأخبار ، وشد معاقله السلف الاخيار ، ورسم عالمه العلماء الاحبار ، وشد أركانه أنظار النظار . واضا وضح السبيل لم يجب الانكار ".
ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما ابداه والاقرار وهو يصرح وينص بصفة خاصة على الصحابة فيصفهم بأنهم " عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها ، وأسسوا قواعدها وأصولها ، وجالت أفكارهم في آياتها ، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها وعنوا بعد ذلك باطِّراح الآمال وشفعوا العلم بصالح الاعمال ".
القرآن والسنة هما أول مصرح بمقاصد الشريعة ، وأول منبه على امثلتها ونماذجها الاجمالية والتفصيلية ، فرغم ان احكام الوحي لها من القداسة ومن الثقة بها والتسليم لها ، ما لا مزيد عليه عند المؤمنين بها ، وما لا يحويهم إلى بيان على ولا حكمة ولا مقصد ولا مصلحة ، فان القران السنة – مع ذلك – قد بينا كثيرا من علل الاحكام ومقاصدها في العبادات والمعاملات وسائر أبواب التشريع، وأقول كما قال ابن القيم رحمه الله : " والقران وسنة رسوله مملوآن من تعليل الاحكام بالحكم والمصالح ، ولو كان هذا في القران والسنة نحو مائة موضع او مائتين لسقناها ، ولكنه يزيد على الف موضع بطرق متنوعه".
يقول الباحث محمد بنيعيش وهو يؤكد هذه الحقيقة : " وما يؤكد اعتماد فقهاء الاندلس على المنهج المقاصدي ان منهج أبي الوليد الباجي في الفقه هو منهج الامام مالك ، والمالكية على العموم ، إذ كانوا يعتمد في فقهه واجتهاده على أصول مذهب الامام مالك ، واصول مذهب ابي حنيفة من كتاب وسنة واجماع وقياس ن وغيره من المصادر التبعية كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان".
فاعتنائهم بالمعنى المناسب للأحكام الشرعية ، في حالتي جلب المصالح للعباد ، أو درء المفاسد عنهم، متضمن في المقاصد الشرعية سواء في استنباطه من نصوص جزئية ، أو كليات الشريعة ، إذ في دعوة الشارع الحكيم حياة للمؤمنين بدءاً بحفظ الدين والنفس ومروراً بحفظ العقل والنسل وانتهاءً بحفظ المال والعرض.
وصدق الله العظيم إذ يقول " ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ { الانفال24} ، وقوله سبحانه وتعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { البقرة 179}.
وليس ملزما أن تكون المعاني كلها في مرتبة واحدة، بيد أن مقاصد الشريعة الإسلامية من الكمال والشمول بحيث تضم جميع العناصر والمفردات للظفر برؤية حقيقية مستوفية ومستوفاة ليست خارجة مراد الشارع الحكيم ، فمعاني مقاصد الشرع منسجمة في أصول وقواعد كلية جامعة ، ترعى مصالح العباد في العاجل والآجل، وهو تعبير عما يمكن أن يعمل به المقاصدي – بوصفه معنى عاما – في مجال فهم النصوص وتدبرها وتدبيرها ، وهي أصول سلفية لدى مالكية الاندلس ، مما يدل على امتلاكهم ملكة النظر، وعقلهم معاني المقاصد والمامهم بمبادئ الأصول فقد نقل عن عبيد الله بن يحيى عن ابيه انه قال لمحمد بن بشير : " ان الحالات تتغير ولا تثبت فإذا عدل عند الرجل بحكم شهادته ثم تطاول أمره ، وشهد عندك ثانية فكلفه التعديل ، وأخر فيه الكشف فاعمل بحسب الذي يبدو لك فقبل ذلك منه ابن بشير فلما أشعر الناس اخذوا حذرهم منه"، فعقل معنى حفظ أموال الناس بإجراء التعديل والتثبت وتأخير الكشف ، ومراعاة التغيرات والتبدلات ، مقومات نسقية تتضمن مقاصد كلية في جلب كل ما يصلح للعباد من نفع ، وهو يفسر كلام ابن حبيب (ت238ه) عن صفات القاضي بأن يقضي وبه غضب أو ضجر أو ضيق أو جوع أو هم ، لما يخاف على فهمه من الابداء والتقصير عن الفهم ، وذلك لأنه يتحكم في أموال ومعاملات وتصرفات الناس ، ومن شأن الجوع والهم أن يحيد به عن الحق فتضيع حقوق الناس ، ولا تتحقق بذلك ما جاءت به شريعتهم من صلاح ودفع مضار.
أهمية هذا الموضوع:
ان الناظر في علم المقاصد يتأكد له انه فن لم يتأصل الا على يد العلامة المتفرد ابي إسحاق الشاطبي رحمه الله ، في كتابه النفيس " الموافقات" وقد من الله عليه فلا يقبل منة من احد غيره.
توفي الشاطبي رحمه الله في القرن الثامن ، ونحن بصدد دراسة حقبة تأصيلية ، فما العمل والحل هاته؟
نعلم جميعا ان المقاصد لم تدون بوصفها نظرية قائمة الذات الا في عصر الشاطبي الذي كشف النقاب عن هذا المصطلح الذي لم يحظ بما يستحق من العناية والاهتمام من قبل الأصوليين قبله.
وعلى الرغم من حضور معطيات المقاصد قبل الشاطبي في كثير من المصنفات الا انه جعل منها فنا مدونا له قواعده وأسسه في موافقاته، ظهرت الحاجة الملحة الى البصر بها وبأطروحاتها في وقتنا الحالي.
وبما اننا نعلم ان هذا الفن تأصل على يد العلامة الاندلسي فلا مناص من الحوم حول بعض أطاريحه ذات الأهمية بما يخول لنا احداث الموازنة والمقارنة مع أطاريح زمرة من المهتمين سواء كانوا اندلسيين ام غير ذلك.
وقد علمنا في كل الفنون والعلوم انه لا يحسن بهذه الامة ان تنطلق مما يسمى بدرجة الصفر ، إذا ما جاز ان سنتفيد من الأديب والفيلسوف الفرنسي رولان بارث في كتابه " درجة الصفر للكتابة " لان اقصى ما يمكن ان يصل اليه من بدأ من هذه الدرجة في شتى الميادين الثقافية والحضارية والعلمية والفكرية ان يأتي مع بذل الجهد والوسع بما جاء به من سبقه، لن لم يكن نسخة مكررة من ابداع السابقين.
لقد نهلت من معين ثلة من العلماء والفقهاء القدامة والمعاصرين من اجل تجميع عناصر ومعطيات هذا الاجتهاد المقاصدي ، فتصح المقارنة والموازنة مع معطيات المؤسسين للاجتهاد الفقهي المقاصدي من مالكية الاندلس ، لننظر الى سبقهم رحمهم الله بما قدموا واسلفوا ، لانهم حازوا جائزة السبق الى التأسيس والتأصيل الذي سيعتمد فبما بعد ، ليبلغ هذا الفن نضجه واستقلاله بعد ذلك على يد الشاطبي كما اشرنا.
وبغض النظر عن مسالة الخلاف الدائر حول مسلاة وصف المقاصد بالعلمية ، فهناك ن يسمها ب " علم المقاصد" وهناك من يقول بعدم استكمال مفرداتها ومفاهيمها واوصافها وموضوعاتها ومسائلها وثمارها وعدم انفكاكها عن الطرح الاصولي شكلا ومضمونا ، فضلا عن التجميع والمنهج عبر العصور المتطاولة ، ليكون القصد هو الدعوة الى تفعيل المقاصد لإغناء علم أصول الفقه باعتباره جزءاً لا يمكن ان يتجزأ عنه فيكتسبان في صعيد واحد من الاجتهاد والمجاهدة والجدة والتجديد.
ومع هذا وذاك فقد فرضت جملة من المعطيات حضورها ستعنى بها هذه الدراسة التي جاءت متناولة الفصول التالية:
الفصل الأول : الاجتهاد المقاصدي : مفهومه ، آلياته ونشأته.
الفصل الثاني: أسس الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.
الفصل الرابع : ابعاد الاجتهاد المقاصدي عن مالكية الاندلس.
الفصل الخامس : التنزيل الفقهي الاجتهادي المقاصدي في فقه العبادات.
الفصل الثالث : منطلقات الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.
فهرس الموضوعات
من الميثاق القرآني والهدي النبوي والذهنية العلمية...................... 5
إهداء..............................................................7
المقدمة.............................................................9
أهمية الدراسة وخطتها..............................................16
الفصل الأول : الاجتهاد المقاصدي : مفهومه ، آلياته ونشأته..........23
المبحث الأول : مفهوم الاجتهاد المقاصدي وعلاقته بفقه الواقع........25
المطلب الأول : مفهوم الاجتهاد وعلاقته بباقي المصطلحات..........25
اولاً: مفهوم الاجتهاد.............................................25
ثانياً: مفهوم الاستنباط...........................................29
ثالثاً: مفهوم الفكر..............................................31
رابعاً: مفهوم النظر..............................................32
المطلب الثاني: المراد بالاجتهاد المقاصدي..........................34
أولا: مفهوم المقاصد ...........................................34
ثانياً: مفهوم الاجتهاد المقاصدي.................................38
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد المقاصدي بفقه الواقع .............40
المبحث الثاني : نشأة الاجتهاد المقاصدي في الفقه الإسلامي........44
المطلب الأول : الاجتهاد المقاصدي عن فقهاء الصحابة والتابعين....45
1- الاجتهاد المقاصدي في عصر الصحابة........................45
2- الاجتهاد المقاصدي في عصر التابعين.........................51
3- الاجتهاد المقاصدي في عص أئمة المذهب....................52
المطلب الثاني : جهود المحدثين في بناء الاجتهاد المقاصدي..........56
جهود الشيخ طاهر بن عاشور ..................................56
جهود الشيخ علال الفاسي ....................................60
جهود الشيخ يوسف القرضاوي.....................................65
الفصل الثاني: أسس الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.........71
المبحث الاول: بوادر نشأة الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس...71
المطلب الأول : بوادر تأسيس المدرسة المالكية بالأندلس..............72
المطلب الثاني : مرونة الفقه المالكي بالأندلس.......................75
المبحث الثاني : مقومات الاجتهاد المقاصدي في المدرسة المالكية بالأندلس..79
المطلب الأول : المقوم الأول : اعتماد اصل المصلحة.................79
1- أنواع المصلحة بحسب الحاجة اليها.............................84
2- رعاية المصالح العامة والخاصة..................................86
3- تعارض مصلحة خاصة مع مصلحة خاصة أخرى...............88
المطلب الثاني: المقوم الثاني : اعتماد اصل الاستحسان..............91
المطلب الثالث : اعتماد اصل سد الذريعة.........................95
الفصل الثالث : منطلقات الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.....101
المبحث الاول : منطلق رعاية المصالح والمفاسد.....................103
المطلب الأول : رعاية مالكية الاندلس بالصل جلب المصالح ودرء المفاسد....104
المطلب الثاني : العناية بالمصلح من جانبي الوجود والعدم................113
أولا : حفظ الضروريات من جانبي الوجود والعدم.......................114
ثانيا: حفظ الحاجيات من جانبي الوجود والعدم.......................116
ثالثا: حفظ التحسينيات من جانبي الوجود والعدم.......................118
المبحث الثاني : منطلق التعليل........................................121
المطلب الأول : مواقف العلماء من التعليل.............................121
المطلب الثاني : اعتماد مالكية الاندلس منطلق التعليل..................125
أولا: اعتمادهم العلة المنصوصة.......................................128
ثانيا : التعليل بمضمون الحكم والمعاني.................................130
الفصل الرابع : ابعاد الاجتهاد المقاصدي عن مالكية الاندلس......133
المطلب الأول : أهمية الفهم الاصولي في بناء الاجتهاد المقاصدي الرصين..135
المطلب الثاني : ترابط الفكرين الاصولي والمقاصدي في اجتهاد مالكية الاندلس..139
المبحث الثاني: استيعاب قصايا التعليل بمنهجية الأصولي والمقاصدي......142
المبحث الثالث: اعتماد ملكة النظر................................146
المبحث الرابع: مراعاة العرف عند تغير الظروف والاحوال.............149
الفصل الخامس : التنزيل الفقهي الاجتهادي المقاصدي في فقه العبادات....157
المبحث الأول : تجليات الاجتهاد المقاصدي في فقه العبادات................157
المطلب الأول : واقعية فقه مالكية الاندلس.............................157
المطلب الثاني : مرونة فقه مالكية الاندلس واستطاعته الإجابة على النوازل والمستجدات ..159
المبحث الثاني: تجليات الاجتهاد المقاصدي في فقه المعاملات..................162
المطلب الأول : اصل المعاملات الحل والاباحة...............................163
المطلب الثاني: رعاية المعاملات للمصالح....................................165
الخاتمة: ................................................................168
ملحق تراجم بعض علماء الاندلس ممن اشتهروا بالراي والنظر ..................171
الفهارس العامة ...........................................................183
فهرس الايات القرآنية ....................................................185
فهرس الأحاديث النبوية..................................................187
فهرس المصادر والمراجع ..................................................190
فهرس الموضوعات ......................................................207
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه... اما بعد.
لم تحظ شبه الجزيرة الأيبيرية بالاهتمام والعناية في المرحلة الرومانية رغم الزخم الذي انطوت عليه الا قليلاً، في حين انصبت عليها الدراسات بوصفها الفردوس المفقود للمسلمين في شتى الجوانب ، وعلى مختلف الجبهات : العلمية والفنية والثقافية على عهد الدولة الإسلامية بمنعطفاتها جميعا ؛ وما زالت تستأثر باهتمام الدارسين ، حيث طفقت الدراسات تترى في الأصول والفقه والصرف والنحو واللغة وما إليها من علوم وفنون شتى، لا تطمح إلا إلى خدمة الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة، وما يتبع ذلك من علوم الآلة التي تصب جميعا في هذا البحر الواسع الذي لا تكدره الدلاء بما هو مستأهل للمزيد من العطاء والإبداع والتفكر والتفكير من لدن أهل الذكر والاختصاص.
وفي هذا المقام أدلى صاحب هذه الدراسة دلوه مع الباحثين، ليحوم حول حمى موضوع يحسب أنه لا يقل قيمة عن أمثاله وهو الموسوم بـ " الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس ... الأسس، المنطلقات والابعاد " ، إذ من شأن هذه الدراسة أن ترفد الفكر الفقهي والأصولي بالمزيد من المعطيات الهامة في هذا الخضم الذي ما زال في حاجة ملحة إلى تسليط الأضواء عليه، من أجل إبراز تراث علماء المالكية بالأندلس وتوضيح أسبقيتهم في هذا المجال.
وللحقيقة فإننا " اذا استثنينا بعض أفراد لمذهب الظاهري ، نجد علماء الأمة الإسلامية مجمعين على أن الشريعة إنما هي حكمة ورحمة ومصلحة للعباد في دنياهم وآخرتهم ، وأن أحكامها كلها على هذا المنوال، ما علمنا من ذلك وما لم نعلم.
قال الله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فقد جزم العلامة ابن القيم رحمه الله (ت756ه) بأن " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد . وهي عدل كلها ورحمة كلها ، ومصالح كلها .
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل .
وهذا الاجماع الصادر عن سائر العلماء المعتبرين ، قديم يرجع إلى الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما حققه وصرح به عدد من العلماء المحققين المدققين في فقه الصحابة والسلف .
قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي (ت1176ه) " وقد يظن ان الاحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح وأنه ليس بين الاعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبة وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل سيد أراد ان يختبر طبائع عبده فأمره برفع حجر أو لمس شجرة ، مما لا فائدة فيه غير الاختبار ، فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله. وهذا ظن فاسد تكذبه السنة والاجماع القرون المشهود لها بالخير" .
ولما كان شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي قد ابدى تخوفه - في زمن الركود والجمود – من أن فكره المقاصدي التجديدي قد يواجه بالاستغراب والانكار ، فإنه وجد ملاذه وحجته في كون ما جاء به " بحمد الله أ مر قررته الآيات والأخبار ، وشد معاقله السلف الاخيار ، ورسم عالمه العلماء الاحبار ، وشد أركانه أنظار النظار . واضا وضح السبيل لم يجب الانكار ".
ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما ابداه والاقرار وهو يصرح وينص بصفة خاصة على الصحابة فيصفهم بأنهم " عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها ، وأسسوا قواعدها وأصولها ، وجالت أفكارهم في آياتها ، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها وعنوا بعد ذلك باطِّراح الآمال وشفعوا العلم بصالح الاعمال ".
القرآن والسنة هما أول مصرح بمقاصد الشريعة ، وأول منبه على امثلتها ونماذجها الاجمالية والتفصيلية ، فرغم ان احكام الوحي لها من القداسة ومن الثقة بها والتسليم لها ، ما لا مزيد عليه عند المؤمنين بها ، وما لا يحويهم إلى بيان على ولا حكمة ولا مقصد ولا مصلحة ، فان القران السنة – مع ذلك – قد بينا كثيرا من علل الاحكام ومقاصدها في العبادات والمعاملات وسائر أبواب التشريع، وأقول كما قال ابن القيم رحمه الله : " والقران وسنة رسوله مملوآن من تعليل الاحكام بالحكم والمصالح ، ولو كان هذا في القران والسنة نحو مائة موضع او مائتين لسقناها ، ولكنه يزيد على الف موضع بطرق متنوعه".
يقول الباحث محمد بنيعيش وهو يؤكد هذه الحقيقة : " وما يؤكد اعتماد فقهاء الاندلس على المنهج المقاصدي ان منهج أبي الوليد الباجي في الفقه هو منهج الامام مالك ، والمالكية على العموم ، إذ كانوا يعتمد في فقهه واجتهاده على أصول مذهب الامام مالك ، واصول مذهب ابي حنيفة من كتاب وسنة واجماع وقياس ن وغيره من المصادر التبعية كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان".
فاعتنائهم بالمعنى المناسب للأحكام الشرعية ، في حالتي جلب المصالح للعباد ، أو درء المفاسد عنهم، متضمن في المقاصد الشرعية سواء في استنباطه من نصوص جزئية ، أو كليات الشريعة ، إذ في دعوة الشارع الحكيم حياة للمؤمنين بدءاً بحفظ الدين والنفس ومروراً بحفظ العقل والنسل وانتهاءً بحفظ المال والعرض.
وصدق الله العظيم إذ يقول " ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ { الانفال24} ، وقوله سبحانه وتعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { البقرة 179}.
وليس ملزما أن تكون المعاني كلها في مرتبة واحدة، بيد أن مقاصد الشريعة الإسلامية من الكمال والشمول بحيث تضم جميع العناصر والمفردات للظفر برؤية حقيقية مستوفية ومستوفاة ليست خارجة مراد الشارع الحكيم ، فمعاني مقاصد الشرع منسجمة في أصول وقواعد كلية جامعة ، ترعى مصالح العباد في العاجل والآجل، وهو تعبير عما يمكن أن يعمل به المقاصدي – بوصفه معنى عاما – في مجال فهم النصوص وتدبرها وتدبيرها ، وهي أصول سلفية لدى مالكية الاندلس ، مما يدل على امتلاكهم ملكة النظر، وعقلهم معاني المقاصد والمامهم بمبادئ الأصول فقد نقل عن عبيد الله بن يحيى عن ابيه انه قال لمحمد بن بشير : " ان الحالات تتغير ولا تثبت فإذا عدل عند الرجل بحكم شهادته ثم تطاول أمره ، وشهد عندك ثانية فكلفه التعديل ، وأخر فيه الكشف فاعمل بحسب الذي يبدو لك فقبل ذلك منه ابن بشير فلما أشعر الناس اخذوا حذرهم منه"، فعقل معنى حفظ أموال الناس بإجراء التعديل والتثبت وتأخير الكشف ، ومراعاة التغيرات والتبدلات ، مقومات نسقية تتضمن مقاصد كلية في جلب كل ما يصلح للعباد من نفع ، وهو يفسر كلام ابن حبيب (ت238ه) عن صفات القاضي بأن يقضي وبه غضب أو ضجر أو ضيق أو جوع أو هم ، لما يخاف على فهمه من الابداء والتقصير عن الفهم ، وذلك لأنه يتحكم في أموال ومعاملات وتصرفات الناس ، ومن شأن الجوع والهم أن يحيد به عن الحق فتضيع حقوق الناس ، ولا تتحقق بذلك ما جاءت به شريعتهم من صلاح ودفع مضار.
أهمية هذا الموضوع:
ان الناظر في علم المقاصد يتأكد له انه فن لم يتأصل الا على يد العلامة المتفرد ابي إسحاق الشاطبي رحمه الله ، في كتابه النفيس " الموافقات" وقد من الله عليه فلا يقبل منة من احد غيره.
توفي الشاطبي رحمه الله في القرن الثامن ، ونحن بصدد دراسة حقبة تأصيلية ، فما العمل والحل هاته؟
نعلم جميعا ان المقاصد لم تدون بوصفها نظرية قائمة الذات الا في عصر الشاطبي الذي كشف النقاب عن هذا المصطلح الذي لم يحظ بما يستحق من العناية والاهتمام من قبل الأصوليين قبله.
وعلى الرغم من حضور معطيات المقاصد قبل الشاطبي في كثير من المصنفات الا انه جعل منها فنا مدونا له قواعده وأسسه في موافقاته، ظهرت الحاجة الملحة الى البصر بها وبأطروحاتها في وقتنا الحالي.
وبما اننا نعلم ان هذا الفن تأصل على يد العلامة الاندلسي فلا مناص من الحوم حول بعض أطاريحه ذات الأهمية بما يخول لنا احداث الموازنة والمقارنة مع أطاريح زمرة من المهتمين سواء كانوا اندلسيين ام غير ذلك.
وقد علمنا في كل الفنون والعلوم انه لا يحسن بهذه الامة ان تنطلق مما يسمى بدرجة الصفر ، إذا ما جاز ان سنتفيد من الأديب والفيلسوف الفرنسي رولان بارث في كتابه " درجة الصفر للكتابة " لان اقصى ما يمكن ان يصل اليه من بدأ من هذه الدرجة في شتى الميادين الثقافية والحضارية والعلمية والفكرية ان يأتي مع بذل الجهد والوسع بما جاء به من سبقه، لن لم يكن نسخة مكررة من ابداع السابقين.
لقد نهلت من معين ثلة من العلماء والفقهاء القدامة والمعاصرين من اجل تجميع عناصر ومعطيات هذا الاجتهاد المقاصدي ، فتصح المقارنة والموازنة مع معطيات المؤسسين للاجتهاد الفقهي المقاصدي من مالكية الاندلس ، لننظر الى سبقهم رحمهم الله بما قدموا واسلفوا ، لانهم حازوا جائزة السبق الى التأسيس والتأصيل الذي سيعتمد فبما بعد ، ليبلغ هذا الفن نضجه واستقلاله بعد ذلك على يد الشاطبي كما اشرنا.
وبغض النظر عن مسالة الخلاف الدائر حول مسلاة وصف المقاصد بالعلمية ، فهناك ن يسمها ب " علم المقاصد" وهناك من يقول بعدم استكمال مفرداتها ومفاهيمها واوصافها وموضوعاتها ومسائلها وثمارها وعدم انفكاكها عن الطرح الاصولي شكلا ومضمونا ، فضلا عن التجميع والمنهج عبر العصور المتطاولة ، ليكون القصد هو الدعوة الى تفعيل المقاصد لإغناء علم أصول الفقه باعتباره جزءاً لا يمكن ان يتجزأ عنه فيكتسبان في صعيد واحد من الاجتهاد والمجاهدة والجدة والتجديد.
ومع هذا وذاك فقد فرضت جملة من المعطيات حضورها ستعنى بها هذه الدراسة التي جاءت متناولة الفصول التالية:
الفصل الأول : الاجتهاد المقاصدي : مفهومه ، آلياته ونشأته.
الفصل الثاني: أسس الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.
الفصل الرابع : ابعاد الاجتهاد المقاصدي عن مالكية الاندلس.
الفصل الخامس : التنزيل الفقهي الاجتهادي المقاصدي في فقه العبادات.
الفصل الثالث : منطلقات الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.
فهرس الموضوعات
من الميثاق القرآني والهدي النبوي والذهنية العلمية...................... 5
إهداء..............................................................7
المقدمة.............................................................9
أهمية الدراسة وخطتها..............................................16
الفصل الأول : الاجتهاد المقاصدي : مفهومه ، آلياته ونشأته..........23
المبحث الأول : مفهوم الاجتهاد المقاصدي وعلاقته بفقه الواقع........25
المطلب الأول : مفهوم الاجتهاد وعلاقته بباقي المصطلحات..........25
اولاً: مفهوم الاجتهاد.............................................25
ثانياً: مفهوم الاستنباط...........................................29
ثالثاً: مفهوم الفكر..............................................31
رابعاً: مفهوم النظر..............................................32
المطلب الثاني: المراد بالاجتهاد المقاصدي..........................34
أولا: مفهوم المقاصد ...........................................34
ثانياً: مفهوم الاجتهاد المقاصدي.................................38
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد المقاصدي بفقه الواقع .............40
المبحث الثاني : نشأة الاجتهاد المقاصدي في الفقه الإسلامي........44
المطلب الأول : الاجتهاد المقاصدي عن فقهاء الصحابة والتابعين....45
1- الاجتهاد المقاصدي في عصر الصحابة........................45
2- الاجتهاد المقاصدي في عصر التابعين.........................51
3- الاجتهاد المقاصدي في عص أئمة المذهب....................52
المطلب الثاني : جهود المحدثين في بناء الاجتهاد المقاصدي..........56
جهود الشيخ طاهر بن عاشور ..................................56
جهود الشيخ علال الفاسي ....................................60
جهود الشيخ يوسف القرضاوي.....................................65
الفصل الثاني: أسس الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.........71
المبحث الاول: بوادر نشأة الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس...71
المطلب الأول : بوادر تأسيس المدرسة المالكية بالأندلس..............72
المطلب الثاني : مرونة الفقه المالكي بالأندلس.......................75
المبحث الثاني : مقومات الاجتهاد المقاصدي في المدرسة المالكية بالأندلس..79
المطلب الأول : المقوم الأول : اعتماد اصل المصلحة.................79
1- أنواع المصلحة بحسب الحاجة اليها.............................84
2- رعاية المصالح العامة والخاصة..................................86
3- تعارض مصلحة خاصة مع مصلحة خاصة أخرى...............88
المطلب الثاني: المقوم الثاني : اعتماد اصل الاستحسان..............91
المطلب الثالث : اعتماد اصل سد الذريعة.........................95
الفصل الثالث : منطلقات الاجتهاد المقاصدي عند مالكية الاندلس.....101
المبحث الاول : منطلق رعاية المصالح والمفاسد.....................103
المطلب الأول : رعاية مالكية الاندلس بالصل جلب المصالح ودرء المفاسد....104
المطلب الثاني : العناية بالمصلح من جانبي الوجود والعدم................113
أولا : حفظ الضروريات من جانبي الوجود والعدم.......................114
ثانيا: حفظ الحاجيات من جانبي الوجود والعدم.......................116
ثالثا: حفظ التحسينيات من جانبي الوجود والعدم.......................118
المبحث الثاني : منطلق التعليل........................................121
المطلب الأول : مواقف العلماء من التعليل.............................121
المطلب الثاني : اعتماد مالكية الاندلس منطلق التعليل..................125
أولا: اعتمادهم العلة المنصوصة.......................................128
ثانيا : التعليل بمضمون الحكم والمعاني.................................130
الفصل الرابع : ابعاد الاجتهاد المقاصدي عن مالكية الاندلس......133
المطلب الأول : أهمية الفهم الاصولي في بناء الاجتهاد المقاصدي الرصين..135
المطلب الثاني : ترابط الفكرين الاصولي والمقاصدي في اجتهاد مالكية الاندلس..139
المبحث الثاني: استيعاب قصايا التعليل بمنهجية الأصولي والمقاصدي......142
المبحث الثالث: اعتماد ملكة النظر................................146
المبحث الرابع: مراعاة العرف عند تغير الظروف والاحوال.............149
الفصل الخامس : التنزيل الفقهي الاجتهادي المقاصدي في فقه العبادات....157
المبحث الأول : تجليات الاجتهاد المقاصدي في فقه العبادات................157
المطلب الأول : واقعية فقه مالكية الاندلس.............................157
المطلب الثاني : مرونة فقه مالكية الاندلس واستطاعته الإجابة على النوازل والمستجدات ..159
المبحث الثاني: تجليات الاجتهاد المقاصدي في فقه المعاملات..................162
المطلب الأول : اصل المعاملات الحل والاباحة...............................163
المطلب الثاني: رعاية المعاملات للمصالح....................................165
الخاتمة: ................................................................168
ملحق تراجم بعض علماء الاندلس ممن اشتهروا بالراي والنظر ..................171
الفهارس العامة ...........................................................183
فهرس الايات القرآنية ....................................................185
فهرس الأحاديث النبوية..................................................187
فهرس المصادر والمراجع ..................................................190
فهرس الموضوعات ......................................................207
[طباعة | ارسل الصفحة]