الرئيسة   مسائل علمية   التكفير بمطلق انتساب المعين إلى طائفة

التكفير بمطلق انتساب المعين إلى طائفة

 المعين من أهل الشهادتين بمجرد الانتساب إلى طائفة.jpg

تكفير المعين من أهل الشهادتين بمجرد الانتساب إلى طائفة


 


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله..


الملخص:


1. لم يجرِ  النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الكفر على المعينين من أهل الشهادتين ممن ظهر منهم مكفر، وقد بينتُ مناط ذلك، وكانت معاملته صلى الله عليه وسلم لهم ظاهراً هي معاملة المسلمين.


    وهذا لا يعني ضرورةً أنهم لا يكفرون في نفس الأمر؛ كما تقوله المرجئة، ولكنها سعة عظيمة في الإعذار، واعتبار كبير للشبهات، وفي حال المنافقين= رعاية ظاهرة للمصلحة.


2. كل قول أنتج فروعا منتشرة تخالف ما عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو علامةُ بطلانه، أو أمارةُ خطأ في تحقيق مناطه ولا بد من أحدهما؛ فإذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يظهر تكفير أحد من أهل الشهادتين طيلة حياته، ورأيت الكم الكثير من التكفير من الشخص الواحد للمعينين في سنة واحدة= أدركت مقدار زاوية الميلان الكبيرة في مساره عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.


3. للشريعة مقاصد عظيمة في اعتبار الشيء كفرا؛ منها : 1) تحقيق الإيمان بكونه مكفرا  2) تحذير المؤمن القانت من الوقوع في ذرائع الكفر 3) الإعذار إلى كافر معاند 4) الإنذار لمؤمن مقصر مذبذب الذي يقع فيما يوصف كفرا أحيانا.


    وأما مقصد البعض في تطبيقه على المعين من أهل الشهادتين فقد تركه صلى الله عليه وسلم؛ رغم وجود كثير من أحوال الكفر القولي والعملي؛ ما يدل على أن تطبيقه على المعين ليس مقصدا أوليا للشريعة.


    ونظرا إلى أن البعض قد تشرب قلبه هذا الظن المغلوط؛ وهو أن مقصد الشريعة من بيان كفر بعض الأفعال والأقوال هو تطبيقه على المعين من أهل الشهادتين فقط= تجدهم ربما تكلفوا تكفير المعين؛ ليقوموا بإنفاذ ما ظنوه مراد الله من أحكام الكفر على أهل الشهادتين.

هذا وإن تعزيزهم هذا المقصد في نفوسهم غاية في الخطر؛ لأنه باعثٌ ملحاح ٍينتشر لهم بسببه من أحكام التكفير على المعينين ما لا حصر له؛ ما يخالف ما عليه الظاهر من هديه صلى الله عليه وسلم.


4. التكفير بمجرد الانتساب إلى طائفة من أهل القبلة تقول الكفر أو تفعله لا يجوز؛ لما يلي:


      ‌أ- عدم الدليل الشرعي؛ أو حتى العقلي على أن مطلق هذا الانتساب كفر.

      ‌ب- أن التكفير بمجرد الانتساب مناف ٍلقواعد العدل؛ لكونه أخذا للشخص بجريرة غيره.


      ‌ت- أن تكفير الشخص باللازم الضروري عقلا من قوله دون أن يلتزمه= من شأن أهل البدع، وأن أهل السنة اتفقوا على عدم تكفيره بمجرد ذلك؛ فإذا كان لا يكفر باللازم الضروري عقلا من قوله هو؛ فمن باب أولى أن لا يكفر الشخص "بمجرد انتسابه" إلى طائفة؛ بسبب فعل غيره أو قوله.


      ‌ث- أن عامة الأئمة لم ينتهجوا تكفير المنتسب لا تنظيرا ولا تطبيقا؛ بل قالوا عكسه تماما.


      ‌ج- ذكرتُ مَن قال مِن العلماء الأوائل والمعاصرين بعدم الكفر بمجرد الانتساب كأحمد وابن تيمية والسبكي وابن القيم وابن باز وابن عثيمين والألباني والوادعي رحمهم الله جميعا.


5. بيَّنتُ الخطأ في تنزيل كلام أكثر العلماء العام والمطلق في تكفير الفرق على الفرد المعين منهم.


6. ذكرتُ سعة الأئمة في درء الكفر بالشبهات، ومؤثرات التغرير إذا ظهر من المعين مكفر؛ فكيف بمجرد الانتساب؟


7. أوضحت خطر كثرة الفروع المخالفة للقاعدة الكلية، وأن تلك الفروع المتكاثرة المخالفة لتلك القاعدة المدعاة تقضي عليها بالبطلان.


8. أكدت أن حق الشهادتين لا يتجزأ.


9. عقبت على كلام الشيخ د محمد بن سعد العصيمي وفقه الله فيما زاده عليّ؛ مما لم يقع في كلامي مطلقا لا لفظا ولا معنى؛ وهي عبارة: "فلا يحكم عليه بقوله ما لم يعتقده بقلبه" وبنى عليها ما ذكره من وصف الإرجاء لهذا الكلام.


                                      انتهى الملخص


 


تكفير المعين من أهل الشهادتين بمجرد الانتساب إلى طائفة


أين الحاجة لمثل هذا التسارع وتلك الكثرة؟


       لم يحْتَج ِ النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكفير أعيان أهل الشهادتين ممن ظهر منهم مكفر؛ وأقرب ما يكون مناط ذلك هو: مراعاة غشاواتٍ من شبهة، أو مؤثرات من تأويل أو جهل أو تغرير، كما ترك إظهار تكفير من عُرف كفره من المنافقين؛ وذلك لمصالح أعظم، وأجرى على أولئك المنافقين مع ذلك أحكام المسلمين ظاهرا في التوارث، والدفن في مقابر المسلمين؛ كما لم يُنقل عنه أنه فسخ أنكحة نسائهم، أو حرَّم ذبائحهم.


        قال ابن تيمية : (..إن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تَجري عليه أحكام المرتد ردةً ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح؛ حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك ... وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه – كابن أبيّ وأمثاله، ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات له ميت، آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماءهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته) أهـ.


      وأما قصة أم ولد الأعمى التي سبَّت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتْلُ زوجها لها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ فقد قرر محققون من أهل العلم: أنها كانت ذمية نقضت عهد ذمتها بسبها للنبي صلى الله عليه وسلم، على نزاع في صحة الحديث، واختلافٍ كبير في ألفاظه.


       وكذلك قصة قتل عمر رضي الله عنه للمنافق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم= لا تثبت عند محققي المحدثين.

وعلى فرض ثبوتها فليس فيها أن هذا القتل بُني على التكفير؛ فمن محتملاته أنه من باب التعزيز، ومن ادعى أنه بُني تكفير فعليه البرهان.


      وقد وجد هذا الترك للتكفير أو إظهاره في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجود بعض المقتضيات التي عند المكفرين اليوم، وعدم ظهور الموانع.


      فعلى هذا لو أن المرء باح برأيه في هذه المسائل ببيان الكفر بالنوع، وأنه كفرٌ أكبرُ يخرج المرء من الملة، ثم ترك تكفير المعين فيها، أو ترك إظهاره إذا ثبت عنده= لم يكن مؤاخذا بذلك؛ بل سيكون مأجورا إذا كان ذلك الترك لشبهة، أو لعارض جهل أو إلجاء، أو مراعاة لاجتهاد، أو كان تَرْك إظهار التكفير لمصلحة راجحة؛ وفي المقابل: فإنه سيكون آثما وآتيا كبيرة من كبائر الذنوب إذا كفَّره مخالفا لأصول السلف، وضوابطهم في ذلك التكفير.

ولو كان المرء مؤاخذا بتركه ذلك التكفير لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم حين ترك تكفير كثير من أهل الشهادتين ممن لا يُعرف عنه نفاق، أو حين ترك إظهار كفر من عُرف عنه نفاق من المنافقين، وهذا وقت البيان والحاجة إليه، ولا يؤخر البيان عن وقت حاجته.


 


ليس هذا منهج المرجئة كما يظنه البعض:


       وهذا لا يعني ضرورةً أن الذين تلبسوا بمكفر، ثم تركنا تكفيرهم= أنهم لا يكفرون في نفس الأمر؛ كما تقوله المرجئة، ولكنها سعة عظيمة في الإعذار، واعتبار كبير للشبهات، وفي المنافقين: رعاية ظاهرة للمصلحة.


 


بين الكافر الأصلي ومن قام به مكفر من أهل الشهادتين:


       نتجت هذه الزيادة في التكفير عند البعض لأولئك الأعيان فيما بدا لي= من ظن أولئك البعض أن تكفير المعين في هذه الحال مساوٍ لاعتقاد الكفر في أصل المسألة المعينة، أو هو مساوٍ لمسألة تكفير الكافر الأصلي، وهذا خطأ آخر؛ لظهور الفرق بين الأمرين؛ فحُكْمُ الكفر للكافر الأصلي قطعيٌ لا نزاع فيه، وأما تكفير أعيان أهل الشهادتين فغالبه الأعظم اجتهادي؛ لأجل العوارض والنزاع فيها، وانظر كلام ابن القيم في "الطرق الحكمية" (147) في اعتبارها من الاجتهاديات، وسيأتي نقل كلامه بحروفه.


       فإذا زال هذا الإشكال انعدمت أحوال تكفير المعين من أهل الشهادتين، أو كادت.


 


طريق السلف منجاة:


       ما ذكرته من اعتبار هدي الرسول ونهج صحابته في فهم نصوص الكفر أو غيرها هو ما يميز الطريقة الأثرية، والمشرع السلفي : "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها".


       فعليه كلما دعتك نفسك إلى تكفير معين في تلك المسائل فاستعصم بهذا الهدي الظاهر؛ ليكون نجاة لك من أودية الهلاك.


       وقد قدَّمت الكلام بهذا بين يدي المسألة لأن تتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته يغني عن الكثير من الجدل في أي مسألة؛ فبمجرد نظرنا في هديهم وكفهم عن تكفير أهل الشهادتين رغم وجود بعض المقتضيات التي عند المكفرين فسوف ندرك خطأ ما عليه البعض، وهذه هي المسامتة التي تسدد الخطى، وتنير الدرب، وتقي من العثرات.


         فإذا تأملنا ذلك الهدي فإما أن ندرك فيه مناطاتِ حكمهم وأسبابَه، ولا بد هنا من أن يكون التنزيل على الواقع منتجا مثل هديهم من كون الأصل والأكثر هو الكف عن أهل الشهادتين في مقالات الفرق ونحوها؛ فإذا لم يُنتج ذلك فإن محل الخلل يكون في تخريجنا ذلك المناط؛ فهنا علينا التوقف تعظيما لظاهر هذا الهدي، وأن نجعل ما بين أيدينا من استدلالات؛ كالعمومات والإطلاقات= من جنس المتشابه الذي يوكل علمه إلى الله تعالى في حق المعين، إلى أن تتبين لنا المناطات والعلل الصحيحة؛ كشأن الراسخين في العلم اللذين يقولون عند التشابه: "آمنا به كل من عند ربنا" وإن بقيت المسألة مشكلة فليصدع كل موفق سكون ليله بهذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في افتتاح تهجده: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وأن يطَّرح بين يديه، ويتخلى عن حول نفسه وقوتها إلى حول الله وقوته:


إذا لم يكن عون من الله للفتى    فأول ما يجني عليه اجتهاده


 


ترك الحكم على المعين بالكفر لا يعني ترك بيان الكفر وخطره:


        إن شَعْرَ كل مسلم ليقف من المقالات العظيمة لأهل البدع المكفرة؛ مما يكون عند الجهمية والمعتزلة والشيعة وغيرهم، ولكن لا مجال للعاطفة في الحكم على الأشخاص، والعدوان على الأعيان إلا بهادٍ من الوحيين أو أحدهما؛ فمن لم يكن العلمُ قائدَه والتأملُ رائدَه والصبرُ سائقَه فإنه سيسلك دروب الغوغاء وطرق الدهماء، أهل الاصطفافات دون بصيرة، وهم الذين قال فيهم علي رضي الله عنه: (والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق).


        وقد شرع الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المعاصي التي ليست كفرا؛ فكيف بأقوال الكفر وأفعاله؛ فهي أولى بالإنكار والبيان، ومن أعظم أنكارها أن توصف بوصفها الثابت في الشريعة، وأن توضح دلائلها، وتكشف الشبهات الموجهة إليها.


        هذا ولأن العامة وبعض أهل العلم يربطون بين الكفر بالنوع والكفر بالعين ربطا لا يكاد ينفصل فأرى تَعَيــُّنَ توضيح الفرق بين الأمرين، وكان هذا هو ديدن أبي العباس ابن تيمية؛ فإنه إذا عرض للكفر بالنوع كانت عينه على موانع التكفير وحال المقلدين والجهلة والمتأولين والمغلوبين على أمرهم؛ يبين عدم التلازم بين كفر النوع وكفر العين.


 


مقاصد الشريعة في أحكام الكفر:


       سمعت كثيرين يقولون: ما قيمة نصوص التكفير إذا لم تُنزل على الأعيان؟ فالجواب أن خطاب الشريعة في بيان كفر بعض الأعمال والأقوال جاء لمقاصد؛ منها:


1. تحقيق الإيمان بما جاء في الشريعة من اعتبار الشيء كفرا.


2. تحقيق حذر المؤمن من الاقتراب من الكفر، ومن ذرائعه.


3. الإعذار إلى كافر جلد معاند؛ بحيث تقام عليه الحجة في الدنيا بكفره، ولقطع عذره عند الله يوم الدين.


4. الإنذار لمؤمن مقصر مذبذب الذي قد يقع فيما يوصف كفرا أحيانا؛ كمن اعتاد أن يصلي كل مفروضة بعد الوقت تهاونا؛ فإذا علم أن ذلك كفر أكبر ازدجر وانتفع.


       هذا ومن المعلوم أن الإيمان بالشيء، وسدَ ذرائعِ نقيضه هي من أصل الدين وحماية جنابه؛ لأنه يقوم على التسليم، وأما الحذر من الوقوع في الشي فتمام الاستبراء للدين والعرض، وأما مقصدا الإعذار والإنذار فهما اللذان أرسل الله بهما الرسل، وأنزل الكتب.


       وأما مقصد البعض في تطبيقه على المعين من أهل الشهادتين فقد تركه صلى الله عليه وسلم؛ ما يدل على أنه ليس مقصدا أوليا للشريعة، وهذا لا يمنع من حيث الأصل جواز تكفير المعين أو إظهاره؛ إذا قامت الحجة وانتفت الموانع ووجدت الشروط، وأن يكون هذا للقضاء الشرعي؛ كما كان الصحابة ينقلون وقائع الكفر إليه صلى الله عليه وسلم؛ كما في قصة زيد بن أرقم، وابن مسعود رضي الله عنهما.


        ومن هنا علمنا فائدة معرفة الكفر ولو لم يُجرَ على الأشخاص من أكثر أهل الشهادتين الذي أتوا بمكفر.


 


التكفير بمجرد الانتساب إلى فرقة:


      التكفير بمجرد الانتساب إلى طائفة من أهل القبلة تقول الكفر أو تفعله لا يجوز؛ لما يلي:


1. عدم الدليل الشرعي، ولا حتى العقلي على أن مطلق انتساب أحد من أهل الشهادتين لطائفة من أهل القبلة تقول الكفر أو تفعله دون أن يظهر منه مكفر معين= أنه كفر، والارتباط بين الطائفة والمنتسب إليها إنما هو ارتباط انطباعي فقط فليس هو بشرعي، ولا حتى عقلي .


   ومطلق الانتساب لا يصلح أن يكون أمارة أو قرينة على الكفر؛ لأن من ثبت إسلامه بيقين أو غلبة ظن فإنه لا يزول بمجرد أمارات لا يثبت بمثلها مال، وإذا كان منهج الأئمة هو درء الكفر بالشبهة؛ فإن القول بإثباته على المعين بالأمارة تعطيل لهذا المبدأ العظيم.


     أما القول بأن عليهم أن يتبرأوا من تلك النسبة وإلا كانوا كفارا فهو حكم بغير علم، وتأسيس بلا برهان، ولا أعلم قائلا به من أهل العلم، ومن المعلوم ما نصت عليها القاعدة: (لا يُنسب إلى ساكت قول) وأن الأكثر على اعتبارها؛ إلا إذا كان السكوت ضمن قرائن أخرى وفي الأموال؛ فهل بمثل هذه يثبت الكفر على المعين، مع ما في ثبوت ذلك الكفر من آثار خطيرة؟


    ومن استدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو إذا طلع الفجر، فإن سمع أذاناً كف وإلا غزا، وأنه لم يستفصل عن كل واحد منهم فهو استدلال ظاهر البطلان؛ لكون أهل هذه البلدة كفارا أصليين؛ فالأصل فيهم هو الكفر؛ بخلاف أهل الشهادتين الباقين على أصل الإسلام؛ هذا عدا ما يؤثر في حكم كفرهم من الموانع.


       بل إن في هذا الحديث ما يعود على قول هذا المستدل بالإبطال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتاط للكافر الأصلي أن يكون قد أسلم؛ مع أن الأصل بقاؤه على الكفر؛ فأين احتياطنا لأهل الشهادتين أن يكون عندهم موانع؟


       وفي حديث أسامة قال صلى الله عليه وسلم: "قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله" رددها ثلاثا، وكان المشرك قبيل نطقه بها يصول ويجول بسيفه أوجع في المسلمين قتلا وحماية للمشركين.


       فهذا قد دلت القرائن الظاهرة وشبه الجلية أنه إنما قالها تعوذا حيث كان في قلب المعركة يقاتل المسلمين بأعظم نكاية ومع ذلك لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك القرائن، واشتد غضبه على أسامة رضي الله عنه حين قتله؛ فأين تأثير العلامات؟

وفي البخاري قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة وأنه دعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر فحين بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين" وقد كانت مع خالد أمارة ظاهرة بأنهم صابئة، مع كونهم على كفر سابق، ولكنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليه بأشد عبارة.


2. أن التكفير بالانتساب أبعد ما يكون عن هدي الإسلام، وقواعد العدل الذي قامت عليه السموات والأرض، وعن القسط الذي أمر الله الناس أن يقوموا به؛ فإن مؤاخذة المرء بجريرة غيره من أعظم الأوزار، قال تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" .


3. أن تكفير الشخص باللازم الضروري عقلا من قول ذلك الشخص نفسه دون أن يلتزمه= من شأن أهل البدع، وأن أهل السنة اتفقوا على عدم تكفيره؛ حتى لو صح اللازم في حقه، وانظر في ذلك "الفتاوى" لابن تيمية (20/271) و"الاعتصام" للشاطبي (2/197) و"العلم الشامخ" للمَقْبلي (412).


       فإذا كان المعين لا يكفر باللازم الضروري عقلا من قوله هو؛ فمن باب أولى أن لا يكفر الشخص بمجرد انتسابه إلى طائفة من أهل القبلة تقول الكفر أو تفعله.


       وذكرت هذا هنا لأن دعوى من يقول بالتكفير بمطلق الانتساب= هي من باب إلزام المنتسب بقول طائفته.


4. أن الحكم على الناس بالكفر هو كالقضاء عليهم في الأموال، وهي التي لا يجوز للقاضي أن يحكم فيها على خصم؛ ولو ببضع ريالات إلا ببينة على ذات الشخص تدل على استحقاق خصمه لها، ولا يكفي في اعتبار المدعى عليه كاذبا في دفع الدعوى بوفاء أو إبراء= أن يقول القاضي إن عائلته أهل كذب، أو أن سكان محلته أهل فجور، أو أنه عضو في عصابة عُرفت بالتزوير؛ فكيف بالحكم على الناس بالكفر الذي هو أعظم بكثير من الحكم بالأموال، وكيف يُحكم عليهم بالكفر لأجل اعتقاد أقاربهم أو مجاوريهم أو بما كتبه علماؤهم؟


5. أن كثيرا من الأئمة عاصروا أو باشروا أهل البدع الذين تحيزوا في طوائف كالقدرية والجبرية والمعتزلة والجهمية والشيعة، وحَكَم أولئك الأئمة عليها بالكفر بالنظر إلى منظومة عقائدها أو بعضها، ولكنهم حين عالجوا مسألة الأفراد المنتسبين إلى تلك الطوائف لم يكفروهم بمطلق ذلك الانتساب، ولا أعلم من كلام الأئمة المتقدمين قولا بذلك؛ بل قالوا عكسه تماما.


6. أن اعتبار العلماء أن الكفر لا يقوم بالمعين؛ إذا فَعَل هو الكفر أو قاله إلا باجتماع شروط وانتفاء موانع وقيام حجة= هو أعظم دليل على أن الأئمة لا يكفرون بمطلق الانتساب؛ وإلا لكان هذا الانتساب كافيا عن الخوض في تعقيدات تحقق الشروط وانتفاء الموانع وقيام الحجة؛ أي أنهم تجاوزوا مسألة الانتساب ولم يقفوا عندها؛ لأنهم يرون أنه لا يلزم من قيام سبب الكفر بالشخص أن يكون كافرا؛ فكيف بمطلق الانتساب، وهذا جلي جدا لا يحتاج في نظري إلى تطويل.


 


7. ما سطره العلماء في مسألة منع التكفير بمجرد الانتساب:


أبو العباس ابن تيمية:


     قال في "مجموع الفتاوى" (7/507) : (..مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية ... ولم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلاة خلفهم ... وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين)أهـ.


    وفي "الفتاوى" (5/239) : بعد ذكره لطائفة الشيعة قرر أن أصحاب هذه الفرق لا يُكفرون بإطلاق؛ ثم قال: (..المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين) أهـ.


   وقال في "الاستغاثة في الرد على البكري" (253): (..ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم ) أهـ.


     فلعلك لحظت أنه لم يكفِّر أهل طائفة تقول بعض الكفر رغم مواجهته لهم، وأن ذلك يشمل علماءهم؛ اعتمادا منه على ما عندهم من مانع الجهل والتأويل؛ فبالأولى أن لا يكفر من لم يُعرف عن عينه مكفر معين إلا مجرد الانتساب.


     وقال في "بغية المرتاد" (354) : (..ولهذا أطلق الأئمة القول بالتكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل= بحكم الكفار، بل الذين استمحنوهم، وأمروهم بالقول بخلق القرآن، وعاقبوا من لم يقل بذلك؛ إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق؛ بل بالتكفير أيضا= لم يكفروا كل واحد منهم، وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية مع معاملته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف)أهـ.


     وقال في "منهاج السنة" (2/452) : (..فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون؛ باطنا وظاهرا، ليسوا زنادقة منافقين؛ لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم .. وأما عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين)أهـ.


 


أبو الحسن السبكي :


      قال في "قضاء الأرب في أسئلة أهل حلب" (524- 525) في كلامه عن خطر التكفير لأتباع الطوائف، وأن ذلك لا يكون إلا باعتراف أو بينة على المعين، وأنه (..لا يكفي أن يقال: هذا من تلك الفرقة..) ثم وجه إلى أمر مهم، وهو أنك (..إن وجدت أحدا يقبل الهدى هديته، وترك عموم الناس موكولين إلى خالقهم العالم سرائرهم، يجادلهم يوم يبعثهم، وتنكشف ضمائرهم) أهـ.


 


ابن قيم الجوزية:


      قال في "الطرق الحكمية" (146) : (.. فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول؛ كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:


      أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق، ولا ترد شهادته، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا.


     القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية، ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى: ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى: قبلت شهادته.


      القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدا وتعصبا، أو بغضا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته: أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل)أهـ.


      فقد ظهر من كلامه أنه لا يعتبر كفر أتباع الطائفة بمجرد الانتساب، واتضح أنه لم يذكر احتمال الكفر إلا في القسم الثالث، ونبه أيضا أن فيه تفصيلا.


      ولعل هذا ما حدا بأحمد رحمه الله في إحدى الروايتين اللتين حكاهما عنه أبو العباس ابن تيمية إلى عدم تكفير الرافضة؛ حيث قال في "مجموع الفتاوى" (3/352) : (وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عند أحمد وغيره) أهـ.


      وقد فهم بعضهم من هذا أن ما في كتبهم من عقائد لا يُعد كفرا، وهذا باطل لا يقوله أحمد؛ بل عقائدهم وكتبهم تنضح بما أجمعت الأمة على أنه كفر، ولكن أقرب ما يُحمل عليه كلام أحمد رحمه الله هو كفرهم بالنوع، وعدم كفر الأعيان وأتباع الطائفة إلا بضوابطه المعلومة، ومنها انتفاء الجهل والتأويل والشبهة وغيرها.


       ومنهج أحمد العملي الذي حكاه ابن تيمية عنه في معاملته أعيان المنتسبين إلى طوائف ذات بدع مكفرة مما ذكرته قريبا= يصحح هذا التوجيه لكلامه رحمه الله من عدم كفر الشيعة أفرادا؛ لا منظومة عقائد.


       ولهذا قال في "منهاج السنة" (6/115) : (.. ولا يَطعَنُ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين: إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام... وإما جاهل مُفْرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة، إذا كانوا مسلمين في الباطن) أهـ.


 


ابن باز:


      في جواب لسماحة الشيخ رحمه الله في موقعه عن سؤال في التعامل مع الشيعة وذكر رحمه الله للسائل حكم من أظهر منهم بدعته المكفرة، ثم قرر أنهم إذا لم يظهروها ووافقوك على الظاهر أن الواحد منهم: (..يُعامل معاملة المسلمين وأمره إلى الله في الباطن) أهـ من موقعه:


 http://www.binbaz.org.sa/fatawa/4165


     وقد حكم الشيخ بأن بعض عقائدهم كفر، ولكن حين كان السؤال عن معين لم يحكم بكفره بمجرد انتسابه، وإنما فصل في إظهاره بدعته أو عدم ذلك، وهذا مقصود هذه الورقة.


 


الألباني:


      جاء في سلسلة أشرطته المفرغة 2-461 "موسوعة الألباني في العقيدة" من المكتبة الشاملة ما يؤكد على هذا المنهج، وقرر أن المرء لا يَكْفُر بمجرد انتسابه إلى طائفته، وأنه لا يتجرأ على القول بتكفير الشيعة (السياق يدل أنه يعني الأعيان لا كل عقائدهم) .. إلا إذا عرفنا عقيدة كل واحد منهم .. وأننا لا نقول بأنهم كفار لمجرد أن كثيرا منهم كفروا، أو لأن كتابهم الكافي يقول كذا وكذا، وأن هذا غير كاف لتعميم إطلاق لفظة الكفر على الشيعة وعلى الرافضة؛ وعلل ذلك لوجود سبيين مانعين من هذا الإطلاق:


      الأول: أننا لا نستطيع أن نقول: إن كل عالم شيعي يحمل هذه العقيدة المكفرة.


والثاني: إقامة الحجة.


      ويرى أن هذين مفقودان، وأنه يكفينا أن نقول: هؤلاء ضالون، وأما بدقة متناهية: فينبغي أن نعرف عقيدتهم إما من لسانهم أو من قلمهم. انتهى كلامه بحروفه مع تصرف يسير.


 


ابن عثيمين :


     فقد سئل رحمه الله في لقاء "الباب المفتوح" 14-189: هل يكفر عامة الرافضة؟ فكان جوابه: (أهل البدع ليسوا على قولٍ واحد؛ فهم يختلفون اختلافاً كثيراً، منهم من يَكْفُر، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم العامي الذي لا يدري عن شيء؛ فلا يمكن الحكم عليهم بحكمٍ عام حتى ينظر في كل شخصٍ بعينه، وهكذا المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع) أهـ.


 


الوادعي:


      حيث قال في كتابه "الإلحاد الخميني" (315) : (..وغالب الرافضة مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويصلون، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إني نهيت عن قتل المصلّين" رواه البخاري.


      وقال في "إجابة السائل على أهم المسائل" (526)  : (الرافضة يختلفون؛ فمنهم عامة لا يعرف شيئا فهؤلاء لا يجوز لنا أن نكفرهم؛ الأصل فيهم الإسلام، ومنهم من يعرف العقيدة الرافضية، ويعتقدها؛ فهذا يعتبر كافرا .. ومنهم علماء لا يعتقدون هذه العقيدة؛ لكنهم لا يزالون على رفضهم فهم مبتدعة) أهـ.


 


سبب الإشكال في تكفير المعين بمطلق الانتساب:


      نشأ الإشكال عند البعض من قول بعض العلماء أن الطائفة الفلانية كافرة، وهو إنما يعني كفرا بالنوع أي من قال ذلك منهم، فيفهمون أن ذلك منطبق على كل معين منه ولو لم نعرف أنه أتى بمكفر محدد.


     وإنما تصح نسبة القول إليه إذا صرح بكفره بمجرد الانتساب؛ وأن ذلك ثابت عليه؛ ولو كانت حاله مجهولة من حيث إتيانه هو بالمكفر، أو عدمه.


      وهذا الاستعصاء في فهم ذلك ثم الخطأ فيه هو ما أوقع كثيرين في ورطة الغلو في التكفير، وكثرته العظيمة؛ لأن تكفير أفراد الطائفة بمجرد ما في كتبهم سيكون منتشرا واسعا.


      وقد نبه أبو العباس ابن تيمية إلى حالة الاستعصاء في هذا الفهم في مسألة النوع والعين؛ فبعد أن ذكر الفِرَق التي تنتحل مقالات مكفرة كالجهمية والمعتزلة ونزاع العلماء في كفرها وعدمه قال في "مجموع الفتاوى" (12/487) :


       (..وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا؛ فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين) أهـ.


    وقال في السياق نفسه موضحا (12/488) :


       (..يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه؛ فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو .. ويكفِّرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم ... ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر؛ فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر ... ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم... وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة... مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم)أهـ.


     فلا أجلى من هذا الكلام الذي اعتبر كفر الطائفة بالنظر إلى بعض عقائدها وأعمالها، وهو ما يقوم به المتخصص في علوم العقيدة، وعالِـم الفِرق الذي يذكر التأريخ العقدي للطائفة، لكن إذا تعلق الأمر بالشخص المعين فيرى العلماء أنا قد دخلنا بذلك في حمى خطير؛  تُعظَّم فيه حقوق أخرى بطريقة مختلفة، ويقام فيه العدل، وتُطلب فيه الأدلة والبراهين على الخصوص، وتلتمس فيه الموانع والضوابط الصارمة، وتُعتبر معه الشبهات سببا لدرء الكفر عن فاعله.


       ولعلك لحظت بعد حكاية ابن تيمية لهذا الكفر من جهمية عصره الذي أحيط بموكب من معززات الردة قولا وفعلا من الدعوة إلى الكفر والقتل والحبس= أنه رأى أن هذا الكفر لا يقوم بأفراد أتباع هذه الطائفة بمجرد انتسابهم؛ بل حتى لو قال المعين منهم هذا الكفر إلا بشروط وضوابط، بل حتى من باشر الدعوة والحبس وقطع الرواتب عن أهل السنة ليقولوا بقوله.


        وأحسن مثال في خطأ البعض فهم كلام العلماء أن سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز كثيرا ما يطلق كفر الشيعة مثلا، ويرتب على ذلك أحكاما عملية في آثار الكفر، لكنه إنما عنى العقائد والطائفة جملة لا الأفراد بدليل أنه حين عرض للتعامل مع المعين كما تقدم في كلامه قرر أنهم لا يكفرون بمجرد الانتساب؛ وإنما أطلق في العموم وفصَّل في الأعيان.


 


توسع الأئمة في درء الكفر بالشبهات:


        جاء في قرار هيئة كبار العلماء عن خطر التكفير: أن الكفر يدرأ بالشبهات، وأن ذلك أولى من درء الحدود بها؛ فلهذا صار العلماء رحمهم الله يمنعون قيام وصف الكفر بالمعين ليس بمطلق الانتساب فقط، وإنما يمنعون قيامه حتى بمن قال الكفر أو فعله بوجود شبهة، أو عدم معرفة الموانع.


       فالعالم الرباني لا يفرح بقيام وصف الكفر، ويسارع إلى التكفير بأدنى خبر أو انطباع أو شبهة، أو عمومات أو إطلاقات؛ بل يلتمس العذر، ويبحث عن المخرج، ويعتبر الشبهة لوقف تنزيل الكفر على قائله، وقد رأينا فيما نقلتُه عن العلماء في هذه الورقة ما يدل على ذلك.


        ويقابل ذلك تضييق البعض في باب منع قيام الكفر على المعين إلى حد أن يكون كثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كفارا؛ لانتساب كثير منهم - حتى من أهل السنة - إلى فرق وطرق لا تخلو طائفة منها من كفر تنتحله، أو شرك تعمل به، أو عقائد تقررها في كتبها؛ فيلزم من هذا تكفير مدن كاملة تنتمي إلى طرق تغلو في الأولياء لمجرد ما في كتب علماء تلك الطرق من كفر، وهذا أمر خطير، وشر مستطير؛ لا يقول به علماء السلف لا القدامى، ولا المعاصرون كما ظهر في هذه الورقة.


         وإليك هذا النص عن ابن تيمية، وهو مثال واحد على نور العلم، ودقة الاستدلال، وسعة الأفق، وخلق الرحمة، وفيض ماء العلم؛ وذلك حين عرض أقوال الجهمية في إنكار العلو الذي أجمع الصدر الأول على إثباته، وعدُّوا إنكاره كفرا، يقول في "مجموع الفتاوى" (5/134):


        (..وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله؛ وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته؛ إلا من كان منافقا يُظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول؛ فهذا ليس بمؤمن، وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن، له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار؛ ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان .


ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم؛ ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمتُه الجنة؛ فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة؛ بل يدخلون الجنة، وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم.


        وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعبد الله به وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه الأول لم يُحمَّل ما لا يطيق، وإن يحصل له بذلك فتنة= لم يُحدَّث بحديث يكون له فيه فتنة؛ فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها؛ كالقرآن والحديث المشهور وهم مختلفون في معنى ذلك) أهـ.


       ومن سعته رحمه الله في هذا الباب أن اعتبر التغرير والتضليل من الطائفة وأئمتها سببا لمنع تنزيل الكفر على الأتباع؛ فقال في "مجموع الفتاوى" (3/239-240) :


        (..ومع هذا فقد يَكْثُرُ أهلُ هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة؛ حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة؛ حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء؛ فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها؛ حتى تكون العقوبة بعد الحجة، وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة: قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" ) أهـ.


     وقال عن الجهمية الذين يرى كفرهم ببعض عقائدهم فيما نقلته آنفا: (..لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم)أهـ.


      فاعتبرَ رحمه الله عُذْرَهم بالتأويل والجهل حتى في حق العلماء، وهذا نهجٌ مقتصد، ومشرع واسع في التعامل مع الأعيان.


       وكان من سعة ابن تيمية في هذا أنه كان يوجه كلام الأئمة في تكفير الشخص أنه تكفير للقول لا القائل؛ ففي "الفتاوى المصرية" (68) ذكر: (..تكفير الشافعي لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق؛ فقال له الشافعي: كفرتَ؛ أي قولك كفر...) أهـ.


       وهذا النهج من ابن تيمية مناقض تماما لطريقة المسارعين في تكفير المنتسبين؛ حيث إنه رحمه الله تأول ظاهر كلام الشافعي في تكفيره حفصا الفرد عينا على أنه تكفير منه للقول والعموم لا الشخص، ولكن هؤلاء يؤولون كلام العلماء في كفر القول والطائفة بأنه تكفيرٌ للمعين الذي لم يسمعوا منه شيئا.


فانظر إلى نور العلم كيف وجَّه أهله، وإلى ظلمات الجهل كيف أركست أصحابها.


      وكان من بلاء بعضم على نفسه أنه يبحث عن أسباب تكفير أهل الشهادتين بالمناقيش، وبالقرائن الضعيفة في أصل استدلالها، والهزيلة شرعا وعقلا في تحقيق مناطها، وقد كانوا في غنى عن ذلك؛ فإن مِنْ أكثر الناس رقة في الدين من غلبته عاطفته؛ حتى جعل دينه غرضا للخصومات.


 


عودة الفروع الكثيرة على أصلها بالإبطال:


       ومن الخطأ الظاهر عند بعضهم أنه يؤصل القواعد الصحيحة في ضوابط التكفير، ثم يجعل لتطبيقها على الواقع والأعيان شروطا ليست في كتاب الله يعطل بها تلك القواعد بالكلية، أو يكاد ؛فينتشر له من الفروع الكثيرة في تكفير الأعيان ما يعلم منه كل ذي علم وفطنة أنه قد فرَّغ ضوابط التكفير من دلالالتها؛ كمن يُكفِّر بمطلق الانتساب، أو بالأخبار المتناقلة والاستفاضات التي لا يثبت بمثلها بضعة دراهم فضلا عن الكفر، أو بتضييق عظيم في موانع الكفر على خلاف ما عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الأئمة والعلماء.


     وهذا الشاطبي في "الاعتصام" (3/140) يبين خطر مثل هذا الانحراف؛ وهو كثرة الفروع المصادمة للأصول المدعاة فيقول: (ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارَضةً أيضا) أهـ.


      فإذا انضاف إلى ذلك أن عادى المرء في تلك الفروع المخالفة ووالى، وكره وأحب، ثم قال عن أعيان مخالفيه في التكفير: هؤلاء على المنهج، وأولئك خارجه فقد صار من أهل التفرق والاختلافات.


 


حق الشهادتين لا يتجزأ:


      تعظم غيرة بعضهم على حق الشهادتين وذلك بأن يزيد في تكفير الأعيان حفظا لحق لا إله إلا الله؛ ويقول : كيف يُنسب إليها من لا يستحقها، وما علم أن حق الشهادتين في تحقيق حماية من قالهما أعظم، وفي حفظ حقوقها لمن له حق الإسلام أتمّ.


       هذا وليعلم أن من مَنع تنزيل حكم الكفر على المعين من أهل الشهادتين إذا أتى بمكفر فأنه لا يعني ذلك بالضرورة أنه ليس كافرا في نفس الأمر؛ كما تقوله المرجئة؛ بل قد يكون كافرا، ولكن القواعد الشرعية في ذلك أنتجت هذا الحكم الذي يُعنى بأحكام الظاهر؛ كالخصم يُقضى عليه ببينة قد تكون شهادة زور في نفس الأمر، ولكن لم تعرفه المحكمة؛ فالقاضي يُجري عليها حكم الظاهر.


       كما أن هذا القول لا يتعارض مع قول العلماء: إن الشهادتين لا تنفع من أتى بنقيضها من المكفرات؛ لأن قولهم هذا إنما يعني أن هذا الناقض لا يثبت حكمه إلا باجتماع الشروط وانتفاء الموانع وظهور الحجة؛ فإذا اكتمل ذلك، وثبت الكفر قلنا حينئذ بأن الشهادتين لا تمنع تكفير من أتى بما يناقضها؛ فإذا لا تعارض.


     الله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى له وصحبه أجمعين.


 


تذييل:


       علق فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن سعد العصيمي وفقه الله على مقطع مرئي لي حول موضوع عدم جواز تكفير المعين بمجرد انتسابه إلى فرقة تقول الكفر ونسب إلي أنني قلت : "قد يقول الإنسان شيئاً ولا يعتقده بقلبه فلا يحكم عليه بقوله ما لم يعتقده بقلبه" .


      حيث وقع في نقله عني عبارة زائدة لم أقلها وهي: "فلا يحكم عليه بقوله ما لم يعتقده بقلبه" أنظر في الدقيقة 5.45 من المقطع المذكور ففيه ما يجلي ذلك.


     ثم زاد الأمر حيرة حين وضعها كلها بين علامتي تنصيص!


     ثم بنى على هذا الكلام الذي زاده  وصف "الإرجاء" .


       وحتى الجملة الأولى التي قلتها وهي: "قد يقول الإنسان شيئاً ولا يعتقده بقلبه" لم أجعلها مناطا للحكم بكفر ولا إيمان، وإنما هي استطراد في ذكر وجود من هو مغلوب على أمره؛ فلا تأثير لها مطلقا في السياق العلمي للمقطع؛ كما يظهر لمن سمعه.


      وقد أحللته من ذلك، عفا الله عنه وغفر له.


      ولكن المأمول من فضيلته وفقه الله، والواجب عليه دينا ولحقي الأدبي هو ما يؤمل في النبلاء الأتقياء وهو منهم إن شاء الله= أن يحذف هذه الزيادة من التعليق الذي كتبه، وأن ينبه على ذلك الخطأ ورجوعه عنه في نفس الوسائل التي بث فيها هذا التعليق، وكذلك حذف ما بناه على الزيادة من ذكر وصف الإرجاء، براءة لذمته أمام الله من تبعة هذا الكلام.


    شكر الله له حرصه وغيرته ونفع به.