الرئيسة   مسائل علمية   شروط الواقفين منزلتها وبعض أحكامها

شروط الواقفين منزلتها وبعض أحكامها

 الواقفين منزلتها وبعض أحكامها.jpg
بسم الله الرحمن الرحيم
شروط الواقفين منزلتها وبعض أحكامها

توطئة :
1) أصلُ مشروعية الوقف : ما رواه البخاري في "صحيحه" (2/982) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال : يا رسول الله إني أصبت مالاً بخيبر لم أصب قط مالاً أنفس عندي منه , فما تأمرني فيه ؟ قال : (إن شئت حبست أصلها , وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر أنه لا يُباع ولا يوهب ولا يورث ... الحديث
2) مجالات شروط الوقف :
1- شروط المنتفعين : هو المقصد الأكبر للواقفين؛ حيث يضيفون أوصافاً للمنتفعين تُعتبر شروطاً : كأن يكون المنتفع مصلياً في وقف المسجد، أو كصفة قرابة, أو علاقة كاتباع مذهب, أو وصف المكان أو الزمان, ونحوه.
2- شروط العين الموقوفة : غرض الواقف من ذلك سد ذرائع اضمحلالها, أو تعطيل مصالحها، أو العبث بها واستغلالها بغير حق, ومنها: أن لا تُباع ولا تُستبدل ولا تُؤجَّر, ونحو ذلك .
3- شروط الناظر : وتوضع لحسن رعاية وإدارة الوقف, وكون الناظر من قرابة الواقف أولى لحفظه.
4- شروط الريع : هي النظام الذي يُرجع إليه عند إدارة الوقف وترتيب صرفه, فمثلا: يبدأ الناظر بالإنفاق على صيانة الوقف، ثم على ما أُنشأ وقفه لأجله، وبيان ما فضل بعد المعينات, أو التوفية عند النقص.


المبحث الأول : مكانة شروط الواقفين في الشريعة :
اتفق العلماء على أن شروط الواقف -في الجملة- معتبرة في الشريعة، والفقهاء يُعبرون عن ذلك بقولهم : "نصوص الواقف كنصوص الشارع في الفهم والعمل -على الصحيح- ما لم تخالف الشريعة". قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/236) : ( .. الواقف لم يُخرج ماله إلا على وجه معين ؛ فلزم اتباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه )؛ ولأن مقتضى سائر العقود: أن عدم الوفاء بالشروط يبطل العقد ويرد المعقود عليه إلى صاحبه, ولا سبيل إلى ذلك في الوقف؛ فلزم الوفاء بالشروط.


المبحث الثاني : المعتبر في دلالة ألفاظ الواقفين :
القول الأول: أن المعتبر في ألفاظ الواقف هو اللغة وعرف الشارع, سواء عُلم أن الواقف قصد ذلك أم جهله. ذهب إليه السبكي في "الفتاوى"(1/356). وفصل الزركشي في "المنثور" (2/378) ورأى: أنه إذا لم يتعلق بالعرف الشرعي حكم فيُقدم عليه؛ لأن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله. وأما إذا تعلقُ حكمٍ بعرف الشرع فيُقدم الشرعي على عرف الاستعمال؛ كما إذا حلف لا يصوم؛ لم يحنث إلا بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم.
القول الثاني -قال به أكثر أهل العلم-: أن المعتبر عرف الاستعمال أو لغة المتكلم دون النظر إلى لغةٍ أو عرفٍ آخَرَيْن؛ لأن كلام الناس في عقودهم وإنشاءاتهم إنما يدل على مقاصدهم هم.
فعلى ذلك : لو وقف على الفقراء من يرى أن عادم بيت المثل فقيراً : جاز لناظر وقفه أن يُعطي مَنْ هذه صفته من ريع هذا الوقف. قال ابن نجيم في "البحر الرائق" (6/226) : ( .. يُحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه ولغته وإن خالفت لغة العرب .. ) أهـ
- والعرف المطرد في زمن الواقف إذا عُلِم يكون بمنزلة شرطه؛ فيُتَّبع ذلك, كاستعارة الكتاب الموقوف إذا جرت به عادة.


المبحث الثالث : الشروط الباطلة :
يُمنع مريد الوقف من اشتراط ما لا يصح ابتداء، وإذا اُشترط وقع الشرط باطلاً ، وذلك إذا :
1. كان محرماً في الشريعة : كالوقف على محرم العين كخمر أو خنزير.
2. أو كان مخالفاً لمقاصدها في رعاية الوقف: كشرط أن لا يُعزل الناظر ولو خان، وأن لا تحاسبه الدولة. فلا اعتبار لمثله.
3. أو اشتراط ما يفضي إلى مفاسد: كاشتراط صفة تكون سبباً ظاهراً للمشاحنات والتباغض؛ كلبس شارات منعوتة ؛ ليثبت انتسابه لطريقة أو لشيخ وخضوعه له. أو وضع شروط لاعتبارات إقليمية أو عرقية وقبلية دون معان صحيحة وأغراض معتبرة لهذه الشروط.

مسألة : الوقف على مباح ، أو ما لا فائدة فيه للواقف :
1- ذهب جمهور العلماء إلى جواز الوقف على المباح ، واستدلوا لذلك: بأن صرف المال في المباح مباح ، والوقف عليه مثله، وأن اشتراطَ الواقفِ أمراً مباحاً هو كالجعالة على مباح.
2- وذهب الحنابلة إلى أنه لا يصح إلا على قربة, وهو وجه عند الشافعية, وكرهه مالك, ونصر هذا القول ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (31/12و46، 47) ، واستدل وعلل له بأمور منها :
1. أن اشتراط المباح لا منفعة فيه, لا له ولا للموقوف عليه. وأما بذل المال في مباح فهذا إذا بذله في حياته: جاز; لأنه ينتفع بتناول المباحات في حياته. وأما الواقف والموصي فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا.
2. إذا كان الشارع قد قال : (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) , فلم يجوِّز بالجعل شيئا لا يستعان به على الجهاد, وإن كان مباحاً , وقد يكون فيه منفعة , فكيف يُبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه فيكون في ذلك ضرر على الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد ؟!
3. أن الوقف على المباح يشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورتي الأنعام والمائدة . 4. القياس على النذر ؛ فالنذر لا يكون إلا على قربة.
والمسألة محتملة، والأقرب هو الأخير لما مضى من الأدلة والتعليلات، ومما يرجحه أن يقال : إن منشأ شرعية الوقف وسبب لزومة هو الشريعة على وجه لا نظير له؛ بخلاف العقود اللازمة فيمكن التحلل منها إذا تقايل العاقدان؛ فثبت أن الإلزام من جهة الشريعة, ومعهودها أن لا يُلزم بشئ من جهة الشرع إلا ما فيه معنى القربة وظهور النفع. ونظير هذا النذر؛ فهو من طرف واحد, ويُعتبر لازماً, ولا يصح على مباح, وذلك بإجماعٍ حكاه ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/352).
وهذا أحرى أن تكون أوقاف الواقفين نافعة لهم في دينهم ودنياهم معاً.


مسألة : الوقف على مكروه :
قد ترجح فيما مضى عدم مشروعية الوقف على مباح؛ فالمكروه أولى بهذا الحكم؛ فإن للشارع مقصداً في ترك المكروه.
وذهب بعض العلماء إلى جواز الوقف على مكروه، وقاسوه على وجوب طاعة السلطان إن أمر بمكروه؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وأجيب: بأن امتثال أمر السلطان واجب ما لم يكن معصية هو بنص الشارع ؛ فدخل المكروه فيما يجب امتثاله؛ لأنه ليس بمعصية. أما كلام الواقف فليس بواجب الامتثال إلا فيما كان قربة؛ فلم ينعقد شرطه أصلاً.


المبحث الرابع : الشروط الجائزة :
كل ما عدا ما ذُكر من الشروط الباطلة والمكروهة والمباحة فهي شروط جائزة وحكمها الاستحباب ؛ لأنـها من القرب ، أو ما كان من مصلحة الوقف؛ كتعيين ناظر وعزله.
التصرف في الشروط الجائزة : اختلف الفقهاء في حد ذلك التصرف المخالف لنص الواقف تضييقاً وتوسعة :
1- التصرف رعاية لضرورة : لأجل ما يُخشى على عين الوقف من الفساد أو الاضمحلال؛ حتى تُرفع حال الضرورة ، ويُدرء الخطر المحدق بالوقف.
- وإذ كان التصرف لا يقتضي تغييراً في بنية الوقف الأساسية ؛ كالتصرف بالاستبدال: فأكثر الفقهاء على جواز عمل ما يخالف شرط الواقف؛ مراعاة لأحكام الضرورات؛ كمداوة المريض بما له ضرر إذا خيف على المريض من ضرر أكبر .
- واشتراط إذن المحكمة هو شرط حسن يتحقق به رعاية مصالح الوقف، ويسد ذرائع التلاعب بالأوقاف.
- وحيث تعذر وجود الموقوف عليه ؛ فإن كان يُرجى وجوده في وقت قريب عرفاً اُنتظر به ، وإلا صرفه إلى مصرف مثيل أو قريب منه ؛ فإن المقصد الأعلى للواقف نيل الأجر ؛ فإن تعذر تحصيل الوصف المطلوب الذي هو من وسائل تحقيق ذلك المقصد : صُرف إلى مثله ؛ فلا يُلغى مقصد لأجل وسيلة.

2- التصرف رعايةً للأصلح : يُتَصور في : 1. مقاصد الواقف من وقفه؛ كتغيير المصرف المنصوص عليه إلى جهة أنفع للواقف في الأجر والمثوبة. 2. وفي وسائل تحصيل مقاصد الوقف ومنافعه؛ كنقل العين الموقوفة إلى مكان ذي ريع أكثر.
وللعلماء في ذلك اتجاهان مشهوران: الأول : المنع من التصرف في شرط الواقف بلا ضرورة ، وعليه أكثر أهل العلم. واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : (إن شئت حبست أصلها , وتصدقت بها) ... الحديث. وقولهم في شروط الواقفين : إنها كنص الشارع في وجوب العمل بها .
والاتجاه الثاني : اعتبار المصلحة الظاهرة ما دام أنها أنفع للجهة الموقوف عليها ، وأعظم أجراً للواقف. وهو أحد قولي الإمام أحمد في نقل المسجد للمصلحة..
والذي يظهر من كلام الإمامين ابن تيمية والشوكاني أن الأصل منع التصرف في شروط الواقفين إلا إذا ظهرت مصلحة أكبر للوقف أو الموقوف عليهم ؛ وهذا متوائم مع أصول الشريعة ومقاصدها ؛ كما أنه متوافق مع مقاصد الواقفين؛ لأن الوقف ليس تعبداً محضاً. والقاعدة في الوسائل هي: مشروعية التصرف وفق ما تقتضيه الغاية المقصودة .
ومما يقوي هذا القول :
1. الإجماع على جواز بيع الفرس الموقوفة على الغزو إذا كبرت ؛ فلم تصلح للغزو، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر.
2. وبأن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نُقب بيت المال الذي بالكوفة (أي: لسرقته) قال : انقل المسجد الذي بسوق التمَّارين ، واجعل بيت المال في قبلة المسجد .
3. وبما ثبت في السنة عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال يوم الفتح : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس , فقال : (صل هاهنا) فسأله , فقال : (صل هاهنا) فسأله , فقال : (فشأنك إذن). رواه أحمد وأبو داود.
ويُجاب عما استدلوا به: بأن منع البيع في الحديث هو بيع التصرف المطلق الذي يقتضي عود الموقوف حراً يتصرف فيه البائع بالثمن تصرف الملاك. ويؤكده ما جاء من النهي عن هبته وإرثه.


المبحث الخامس : موقف الناظر من الشروط المختلف في صحتها :
يترتب على وصول الناظر إلى نتيجة في الحكم بحرمةٍ أو بطلان آثار منها :
1. التسليم للشريعة.
2. إظهار هذا الرأي لينتفع بذلك من يراه .
3. وجوب الامتثال للحل أو الحرمة.
4. يصح إصدار الأنظمة والتعليمات لمن له سلطة بمنع ما يراه باطلاً؛ لأن للحاكم أن يقيد المباح المتفق على إباحته لمصلحة ؛ فبالأولى ما اختلف في بطلانه. دون استباحة العرض أو الظهر لمن خالف فيه. ولا مانع من إجازة وتوثيق وإنفاذ شروط الواقفين محل الاجتهاد في صحتها ، وإن خالفت رأي الناظر أو الموثق .

انتهى